السبت، فبراير 26، 2011

الفصل الأول والثاني


في قرية صغيرة نائية لا يعرف أحد موقعها على الخريطة - كنت أعيش ، وكنت مثل تلك البلدة ، لا أحد يعرف عنها شيئاً ، تعيش في حالة من الهدوء والوحدة ،على عكس سكانها الذين تسري بينهم محبة وتعاون ودفء ونشاط ، فيتسابق كل منهم لخدمة الآخر ، لكنهم أبداً لم ولـن يخدموني حتى وإن كنت بحاجة للمساعدة ، فقد كنت- حسب ما سمعت- أنفرهم مني ، فأنا ساحرة شريرة تهوى أكل الخنافس ، وتعيش مع غراب وتحتفظ في دولاب لها مغلق بأدوات سحرية ، تهلك من يتعرض لها ولو بإلقاء التحية .... كما أنني حسب تخيلاتهم أجلس وحيدة بعد أن فاتني قطار الزواج ، وأكره كل من أسعدها القدر ، واختار لها أن تكون شريكة في قطار الحياة ، لرجل يحاول غرس جذور له في الأرض .
 أيضاً أنا مجرمة فارة من العدالة اختارت القرية ؛ لتكون لها مخبئاً بعيداً عن أعين رجال الشرطة ، وتحسن إخفاء تلك الحقيقة عن مأمور القرية اللطيف.
هذه هي بعض - وليست كل - آرائهم فيّ ، وقد سمعت بعضها في محل البقالة الصغير في القرية والبعض الآخر عندما أكون منحنية في حديقتي ؛ أعطي بعضاً من الاهتمام لزهوري الرائعة- التي  زرعتها بنفسي - فيحسبونني في المنزل فيبدأون في تعريف بعضهم بما لم يعرفونه بعد من آخر أخباري، والتي تكون معظم الوقت مختلقة من مخيلتهم وأبنائهم الأشقياء.
لكنني أرى أنه عليك لكي تعرف شخصاً ما ، أن تقترب منه وتتعرف عليه بنفسك ، ولا تثق في كل من سيخبرك عنه سواه . نصيحة أخرى مني : لا تثق كل الثقة فيمن يحدثك عن نفسه ، فسوف يكذب أو يجمل لك الحقائق ، فقط ثق بخبرتك في الحياة مع البشر ، على تعدد شخصياتهم واختلاف مشاربهم .
اسمي سوزان في الثامنة والثلاثين من العمر ، ترى هل تعتقد حقاً في صدق مزاعم أهل القرية - البسطاء السذج - بأنني قد فوت قطار الحياة ، وأكره من أسعدهم القدر بركوبه قبل أن ينطلق إلى محطة أخرى؟
استمع لقصتي لتعرف بنفسك ، وتحكم كيف كانت حياتي في مراحلها الثلاث .
مرت حياتي بثلاث مراحل .. أروعها على الإطلاق المرحلة الأخيرة ، والتي تعرفت فيها بآدم أو لو شئنا الدقة - منذ اللحظة التي فرض آدم نفسه على حياتي التي اخترتها كمرحلة ثانية وأخيرة لي ، حتى تضمني الأرض في أحضانها مدثرة لي بالثرى.
كما سبق أن فهمتَ فانا أهوى زراعة الزهور ، أعشق أيضاً عزف الموسيقى والاستماع إلى نغماتها السحرية ، التي تنقلك لعالم آخر من تخيلك وإبداعك ، على بساط من روعة الألحان التي تسمعها ، ترى لمَ ينظر إلي أهل القرية إذن تلك النظرات المرتابة ؟ ذلك
لأنني أعيش في وحدة وبرودة صامتين دائماً ، غلفا وجهي بمناعة ضد الابتسام لكل من ألقاه في طريقي ، فحسبوني متبلدة الأحاسيس كارهة للبشر متكبرة عليهم ، والحقيقة أن تصوراتهم كان فيها شيء من الحقيقة ، فأنا كرهت البشر لما رأيته منهم في المرحلة الأولى من حياتي ، فاخترت تلك القرية للابتعاد عنهم ، وأبعدت من حولي سكان القرية ونفرتهم مني ؛ كي يتركونني وشأني فلست أهلاً لتقبل صدمات أخرى .
لم أكن متزوجة أيضاً ولكنني لم أكره من تزوجن غيري ؛ فهذه هي سنة الحياة ، فلا يعني انفصالي عن خطيبي أنني سأقيم لعدم الزواج محفلاً ، يتهافت عليه كل الناس تاركين الحياة تفني .. لست متبلدة الحس لهذه الدرجة ، لكن حياتي في وحدتي أنستني أننا في داخلنا نشتاق لأناس تخاطبنا وتضاحكنا نختلف معهم ويختلفون معنا ، نتخاصم ونتصالح ، نبغض ونعشق ، نحزن ونفرح ..
نحتاج لكي نكون بشراً كما خلقهم الله ؛ يتواصلون معاً لتسير عجلة الحياة زاخرة بالمشاعر والعواطف والدفء والحب.
صارت حياتي كالضباب بارد كئيب غامض ، لا يوجد به ولو لمحة من أشعة ، تحنو بها الشمس على الدنيا ؛ لتبدد الكآبة المسيطرة على الأرض ..
لم أجد في حياتي شيئاً يجعلني أقرب للآدمية سوى شيئين...زهوري وموسيقاي ثم أتى آدم وجارد واقتحما حياتي كشمس تبدد الضباب فتنشر دفئاً يغمر الكون ويذيب جليداً غلف القلوب ....


الفصل الثاني


كنت جالسة في حجرة المعيشة الواسعة ، التي تتصدرها شرفة واسعة وكبيرة تمكنني من التحليق في سماء السعادة ، برؤيتي لزهوري البديعة أثناء جلوسي إلى البيانو ، أو أثناء استماعي لبعض الموسيقى التي تبعث الهدوء والبهجة في قلبي ، وأمامي أريكة واسعة أجلس عليها حين يحلو لي أن أقرأ بعضاً من كتب المكتبة على يمين البيانو ، إضافة إلى دولاب صغير مغلق أقصى اليمين أتجنب فتحه أو الاقتراب منه حتى .

في الوسط بين الأريكة والبيانو مائدة دائرية صغيرة ، عليها زهرية تحنو على وردتين قطفتهما تواً من الحديقة ، جلست إلى البيانو أعزف بعضاً من أعذب الألحان ، وانسجمت تماماً في العزف حتى إنني أغلقت عيني محلقة في جو خيالي بديع ، ولم أنتبه لتلك القطة التي تسللت من الشرفة المفتوحة ؛ هاربة من مطاردة كلب كبير من نوع الوولف كان يجري خلفها مقتحماً الغرفة ، قافزاً على الأريكة وهو يتبعها في كل مكان تحسب نفسها فيه ناجية منه. لم أتنبه على المواء والتكسير والنباح ؛ فقد كنت كما ذكرت أعيش في دنيا أخرى لا وجود فيها لمثل هذه الأصوات الكئيبة المزعجة ، فتحت عيني برفق قرب انتهاء المقطوعة التي أعزفها متجهة بعيني ناحية الحديقة الغنّاء ، لكنني بدلاً من رؤية الخضرة والألوان البديعة فوجئت بوجوده ... غلام صغير في الثامنة من عمره أشقر الشعر مستدير الوجه تتسع عيناه دهشة ، منقلاً بصره بين البيانو وبين معجزة رآها لأول مرة في حياته ..ابتسامة رقيقة تعلو وجهي أثناء العزف ، تسمرت في مكاني وكفت أصابعي عن اللعب مع أصابع البيانو وتجمد الموقف ، حتى إن القطة ومطاردها الضخم كفا عن الحركة مع توقف العزف وكأنه ما كان يحركهما .

تجمدنا لدقيقة تقريباً ولم نعرف ماذا نقول ، فهو يرى العجوز الشريرة التي تتحاكي عنها القرية وهي تعزف الموسيقى وتتذوقها  حتى إن وجهها تعلوه - ويا للمعجزة – ابتسامة رائعة ، أما أنا فقد ذهلت لدخول فتى صغير إلى منزلي رغم ما ينشره الجميع عني ، كيف تجرأ الصغير على دخول المنزل ؟

ضاق الكلب بمتحف الشمع الذي يقف فيه ، فزمجر محتداً على توقف المطارة الممتعة بينه وبين القطة ، لم أكن قد لاحظت سوى الفتى الصغير فاستدرت لصوت الزمجرة فكان دوري لتتسع عيني دهشة وذهولاً ؛ فقد وجدت المائدة الصغيرة وقد انقلبت ، ووردتيّ سقطتا من الزهرية المكسورة ودُمرتا تماماً بفعل جري الحيوانين الشقيين ، بينما كانت الأريكة ممزقة ويقف عليها الكلب الأسود الكبير، نابحاً نحو القطة التي اختارت الدولاب ملاذاً آمناً من الكلب ، لكنه قفز نحوها فأوقع الدولاب الذي انفتح بابه وسقط بعض مما فيه ، بينما انفلتت القطة هاربة من باب الشرفة المفتوح وهي تموء بذعر ، وهم الكلب أن يتبعها لولا أن أوقف الفتى هذه المهزلة بصيحة وجّهَها للكلب : جارد ! توقف .فجمد الكلب مكانه وإن ظل يزمجر محتداً بين الحين والآخر .

انتهت المعركة أخيراً بخسائر رهيبة من جانبي لم ينجُ منها سوى البيانو الذي كنت جالسة إليه ، فنظرت نحو الغلام وقلت له بحزم : هل لي أن أفهم ماالذي أدخلك وكلبك إلى بيتي لتتسببا في تدمير الحجرة بهذا الشكل؟

احمر وجه الغلام وقال : عفواً ياسيدتي لم نقصد ذلك . وأشار ناحية كلبه وهو يقول : إن جارد لديه عادة سيئة ، فهو يعشق مطاردة القطط ولا أستطيع السيطرة عليه حينها.

نظرت للكلب فلم أجد حزاماً في طوقه ، فعدت للفتى بناظريّ وقلت له :لا أظنك تربطه أليس كذلك؟

فأطرق قائلاً بخجل : أنا لا أحب أن أربطه ! جدتي تأمرني دائماً بربطه حين نخرج وكذلك والدي ، لكن جارد يحب الجري والانطلاق .

فقلت له وأنا أجلس على الكرسي الصغير أمام البيانو : ربما عليك أن تبدأ بطاعتهما . ثم أشرت للأريكة وقلت له : كنت أود دعوتك للجلوس ولكن أريكتي كما ترى . فاحمر وجهه أكثر وقال : أنا أعتذر ياسيدتي إذا أحببت يمكنني التعويض عليك

كان منظر الصغير يدعو للشفقة ولم يبدُ لي مثل أولاد القرية الأشقياء فسألته : لستَ من هذه القرية أليس كذلك؟

فأجابني : لا ولكن جدتي تعيش هنا ، وأنا معها هنا حتى انتهاء الأجازة الصيفية .

أومأت برأسي هذا هو إذن سبب دخوله منزلي فهو لم يتسنى له معرفة كل شيء عني من أكاذيب وتفاهات أهل القرية

لكنني تذكرت دهشته حين رأى ابتسامتي ، تُرى لمَ دُهش الفتى حين رآني ؟وكيف سكت عما كان يحدث في الغرفة ؟ هممت بسؤاله عما دار بخلدي ؛ لكنني صُعقتُ حينما شاهدت حديقتي التي تحولت من بهجة للناظرين إلى خراب يؤلم القلوب فقلت له بحزم غاضب : قلتَ إنك تريد التعويض عليّ؟

فقال بسرعة : نعم ياسيدتي ! إذا أحببتِ سأقوم بإعادة زراعة زهورك في الحديقة وإصلاحها ، وأقوم بإعادة ترتيب الحجرة وإصلاح ما كُسر منها. 

وافقت على عرضه سريعاً ولم أناقشه ، ترى ما الذي جعلني أغير نمط حياتي ووحدتي التي ارتضيتها لنفسي ، وأرغب بدخول كائن حي آخر إلى حياتي لم أستطع قط الإجابة على هذا السؤال ، حتى الآن ، ولكنني متاكدة من شيء واحد وهو أنني لم أندم مطلقاً على قبولي دخول آدم وجارد إلى حياتي .

هناك تعليقان (2):

  1. حلو جدا يا هوبا مبروك على افتتاح المدونة :)
    متابعاكي :*

    ردحذف
  2. الله يبارك فيكي يا قمر

    ردحذف

♥ يسعدني معرفة رأيكم فيما كتبت :)